دار بعينيه المحل كله و البائع واقف بجانبه
ينتظر و لا يقطع صمته .
فالتفت اليه و سأله :
"- أنا مش شايف فريسيا ... مش موجودة و
لا ايه ؟
-لأ موجودة يا فندم ...لون ايه ؟
- أبيض
-تمام هجهز البوكيه لحضرتك"
أمسكت بيده كف صغيرة لطفل ذو خمس سنوات و رفع
إليه عينين رائعتين برموش طويلة و سأله :
"بابا انت ليه جايب لجدو ورد مش هو مات
و راح عند ربنا و مش هيشوفه خلاص ؟
-الورد لما بيتحط على قبر حد مات بيسبح و
الميت بياخد ثواب التسبيح ده و بتزيد حلاوة مكانه في الجنة عند ربنا .
-و هيا الفليسيا دي حلوة؟
-أه يا حبيبي , و لونها أبيض زي قلب جدو الله
يرحمه "
صمت بعدها و استكمل في سره ... و قلبها أصفر
كمرار سنواتي في حياته
دفع ثمن باقة متوسطة الحجم و سلّمها للصغير و
خرجا من المحل متوجهين للمقابر .
وضعها فوق القبر و أمَرَ الطفل أن يتلو كل ما
يحفظه من آيات الذكر الحكيم أمام قبرِجده
و وقف صامتاً يتأمله و هو يتلعثم بقرآته
الصغيرة .
-" بابا انت
مبتقولش قلآن زيي ليه ؟
_بقول بس في سري
-لأ قول بصوت عالي زيي
-لأ عشان انت متتلخبطش ... قول انت بصوت عالي
وأنا هقول في سري "
هو لا يحب أن يهدي ثوابَ تلاوتَه لصاحبِ القبر
في الحقيقة .
التفت الى الورود البيضاء على القبر و دار
بينهما حوار صامت .
"- ما الذي استفاده بكل ما فعل ؟ لقد
خسرَ كل شيء في النهاية ...
لماذا هجر أمي ؟ ماذا أذنبت ؟
- لعله لم يحبها
- ومن لا يحب من هي مثلها بكل طيبتها و نقاء
نفسها و طاقة الإيثار لديها !
- لكل رجل مزاجه الخاص في النساء و سر القلوب
بيد الله وحده .
- مزاجه نعم ... محور حياته كلها كان ارضاء
مزاجه فقط ... المسئولية الوحيدة التي تحمّلها طوال عمره كانت مسئولية إسعاد نفسه .
فماذا فعلت أنا كي يتركني رضيعاً ...
لماذا لم يحبني ؟؟؟ أليست هذه هي الفطرة !!!
لماذا تخلَّى عني ؟؟؟
لماذا تركني منكسر النفس .... أرى الذُلَ في
عيون أمي و هي تتلقّى صدقات من أخوالي لتعولني و تُطعمُني و تكسوني ؟
لماذا تركني أشعر دائماً بأني عالة على
خالاتي عندما كانت أمي تتركني عندهنّ لتعمل مساءً في وظيفة أخرى لتساعد في دفع
مصاريف مدرستي ؟؟؟
ما الذي أذنبْته أنا لأعيش كل هذا الاهمال و
كل هذا الرفض من عائلة أمي فقط لأني ابنه و أحمل اسمه؟؟؟
تنقّل من امرأةٍ إلى أخرى ... أنفقَ ماله و اهتمامه و حبه عليهنّ ...
أين هنّ الآن ؟؟؟ لا أرى واحدةً ممن تزوجهن
تبكي بجوار قبره
هل يمكن أن توقظيه يا زهور الآن ليرد على
سؤالي ؟
ماذا استفاد ؟؟
هل كان الأمر يستحق كل هذا التشويه الذي ألحقَهُ بروحي ؟
هل هو نادم الآن؟
كنت أنتظر موته بفراغ الصبر لأسأله إن كان
نادماً.
لمْ أرى الندم و الانكسار في عينيهِ حتى في
مرضه الأخير .
و لِمَ يندم و قد فعل كل ما يحلو له و في
النهاية وجدَني بجانبه في احتياجه و في مرضه أرعاه !!!
لمْ أُعاقِبَه على ما فعله بي و لا بأمي .
لكني كنت سأشعر بعدل الدنيا لو كنت رأيته
نادماً باكياً .
ليس عدلاً أن يعيش يتلذذ في متع الدنيا و
يلحق بِنا كل هذا الأذى ثم يجدني أحْمِله على كتفيّ في أيامهِ الأخيرة .
بعد أن بخلَ عليّ بكل شيء... ماله ... وقته
... حنانه و اهتمامه
بعد أن أسقاني اليتم شراباً مراً في حياته,
بل أسوأ من اليتم
فاليتيم يلقى عطف العالم بأسره .
اليتيم يشارك النبي احدى خصاله.
لكن أنا عشت أٌعاقَب بذنب أنه أبي .
-كان يبحث عن سعادة وهمية ظنّ أنها موجودة في
الدنيا ... مسكين أفنى عمره في البحث عما لم يجده ... ادعو له أن يجده عند ربه
-أدعو له !!
كنت قد أفعل لو كنت وجدته عندما بدأ شاربي
يرسم خطاً واضحاً فوق شفتي ...
لم يكن لأمي أن تعرف ما تقوله عما يحدث لي
...
لو لم يكن أذلّني عمراً و أنا أرى الإجهاد و
الدموع يتسابقان في عيون أمي التي تشعر دائماً بالعجز و قلة الحيلة ...و هي شابة
صغيرة ترعى طفلاً تراه مسكيناً ...و ترفض زيجة وراء أخرى كي لا تترك ابنها هي الأخرى
فيصبح يتيم الأب و الأم ... رغم احتياجها
لرجلٍ يكْفُلها و يكْفُل لها أماناً لم تنعم به منذ تزوجته.
لو سامحته على ما فعله بي , لن أستطيع أبداً
أن أسامحه على ما فعل بها .
تلك التي أفنت شبابها شقاءً و غماً الى أن
ذابت صحتها تماماً و انحنى ظهرها ... ثم بعد ذلك هي تأمرني أكون ابناً باراً به ... أعوله في شيبته و أرعاه في مرضه... وإلا
تكون خسرت خسارتها الكبرى إذ أفنَت عمرها هباءً في تربيتي التي لم تفلح فيها !!!
-اذاً ادعو لهُ لتكون هذا الابن البار ...
ادعو له وفاءً لأمك
حتى وإن لم يستحق هو دعائك ... حتى وإن كنت
ستدعو بقلب واهن خاوي
ان لم يكن هو أهلاً لبرِّك ... فأنت أهلٌ
لذلك
ربُكَ الديّان مُطّلِع و شاهد و هو سيحابك فقط بما في يدك و
أمر القلوب ليس في أيدينا "
مسح دموعه , و مسح على رأس الصغير الذي كان
قد أفرغ كل ما في ذاكرته من قرآن حفّظته له جدته المسنة .
"- تعالى يللا سوا نقرا الفاتحة آخر
حاجة قبل ما نمشي "
و تلواها معاً بصوت هادئ و ببطئ الصغير في
كلامه الصغير
و قاما لينصرفا ...
فوجدا عند الباب شاباً يافعاً لم يلتحق بعد
بالجامعة ...
فابتسم له , بينما لم يبادله الشاب الابتسامة
...
بل بادره قائلاً :
" – مكنتش متوقع اني هلاقي حد هنا
"
ضغط الأول على زر بمفاتيحه فارتفع صوت يخبر بفتح
السيارة وقال للطفل :
" اسبقني ع العربية يللا "
و التفت الى أخيه الغاضب
-" أنا كلمتك كتير عشان تيجي تشوف أبوك
أو حتى تاخد عزاه
-مكنتش عاوز لا أشوفه و لا آخد عزاه
-وجاي هنا ليه دلوقتي ؟؟؟
-معرفش ... بدور على ايه ... معرفش
-طيب عموماً أبوك الله يرحمه كان ليه أملاك ,
اعلام الوراثة خلاص طلع لازم تبقى ترد عليا بعد كده عشان تاخد نصيبك
-حلال عليك ... أنا مش عاوز أي حاجة تفكرني
بيه ...
-اسمعني كويس ... غصب عنك هو أبوك .
أنا فاهم كل اللي انت حاسس بيه لأني مريت بيه
قبلك , لكن خلاص ده نصيبنا من الدنيا , ده اللي حكم علينا بيه ربك
ملناش اننا نعترض
لا أنا و الا انت و لا أمك و لا أمي .
كلنا شربنا من نفس الكاس و خلاص ده قدر ربنا
و لازم نستسلم له
و الدنيا دي كلها على بعضها مش مستاهلة ."
و صمت لما لمح إحمرار عينيّ أخيه و امتلاءهما
بالدموع فلم يُرِدْ أن يقسو عليه أكثر
"- أنت أخويا الصغير و عم ابني اللي
شفته ده ... و أنا جبته هنا النهاردة عشان لما أترمي هنا في نفس المكان ألاقي اللي
يدعيلي و يتصدق عني ...
مش هقولك انسى كل اللي شفته في حياتك , و مش
هقولك اني هعوضك ... لكن خليك فاكر ان ليك أخ كبير هتلاقيه دايماً وقت ما تحتاجه
ضهر و سند ...
احنا الاتنين غلطانين اننا محاولناش نعرف بعض
قبل كده أو نلاقي بعض , يمكن كنا هنبقى أحسن لو كنا لبعض عيلة .
افتكر كلامي ده كويس و لو لقيتني صح ابقى
تعالى هتلاقيني مستنيك أعرفك على أمي و على مراتي و ابني , دول عيلتي ...
و
لازم يبقوا عيلتك انت كمان ... لأنك أخويا .
انت مش مضطر تعيش لوحدك تايه و بتخبط و بتدور
على حاجة متعرفش هيا ايه "
و تركه ماضيًا من خلال الباب , فاستوقفه أخيه
:
"- شكراً انك شيلت الليلة لوحدك , و أنا
آسف اني مكنتش موجود
-مش مهم , المهم بعد كده
- إن شاء الله هبقى أكلمك "
و
تبادلا ابتسامتين باردتين واتجه الأول الي سيارته حيث ابنه الصغير
و اتجه الآخر إلى قبر أبيه ليتسكمل حديثه مع
زهور الفريسيا و يكمل جلسة العتاب معها .