لن أنسى هذه الأيام ما حييت
في الأجازة الصيفية نذهب إلى بيت جدتي مع أبناء أخوالي و خالاتي , نقضي
هناك الصيف بطوله ...
بيت جدتي يتكون من طابقين , سقطت بعض أجزاء طابقه العلوي , فأصبحنا نجتمع
كلنا في الطابق السفلي ...
أذكر سقفه العالي و أبوابه الطويلة ...
أذكر حجرة جدتي جيداً , كم كانت جميلة ...
بأرضيتها الخشبية اللامعة " ليست باركيه بل خشب" , كانت تخضع لعمليات صيانة سنوية لتبقى لامعة
...
و الشباك الطويل الذي يمتد من منتصف الحائط ليقارب السقف , و عليه ستائر
رقيقة من الكروشيه صنعتهم جدتي بيديها كحال كل ستائر البيت.
والسرير العريض الذي يزين ظهره أحفار و نقوش مطعمة بالعاج , و الدولاب
الضخم الذي يحمل تاجاً به نفس النقوش و تحمله ثمانية أرجل تفصله بمسافة عن الأرض
تسمح لنا بخلع أخفافنا تحته , فكان من غير المسموح لنا بارتدائها هنا رغم أنها
كانت لا تطأ الشارع لكنها كانت ممنوعة في هذه الحجرة !!!
و سجادة صغيرة مستديرة بشراشيب كثيرة تحت طاولة ذات سطح بللوري تتوسط
كرسيين ككراسي الصالون في هيئتهما حتى أنهما مغطيان بذات البياضات .
و لم يبق إلا النجفة ذات الثلاث لمبات التي تتوسط السقف العالي البعييييد
... J
كنا نتوجه لفراش جدتي يومياً و عددنا يفوق العشرة أطفال بقليل نتجمع حولها
في سريرها و على حافة الشباك و إن لم يسعنا المكان فعلى الأرض _ ممنوع استعمال
كراسي الصالون إياها_
كنا نرتدي نفس البيجامات , فاحدى خالاتي اشترت القماش وفصلته , و نخفي
أقدامنا في جوارب قطنية و إلى الآن لم يعطني أحد تفسيراً للجوارب في الصيف غير
أنها تقليد عائلي J
وإن ضاقت على أحدنا بيجامته أو "أزعرت" فيوجد دائماً أخرى مقاسها
يناسبه J
لا أذكر شيء مما كنا نحكيه , ولكننا كنا نحكيه J
كنا نتكلم ونسمع و نضحك كثيراً كثيراً كثيراً ,
ثم نتساقط نياماً واحداً تلو الآخر , ومن يصمد للنهاية يحكي لنا المشهد
الذي لم يراه أغلبنا
"تدخل إحدى خالاتي الحجرة غاضبة لأننا أتعبنا تيتة برغينا الكثير و
أسهرنا جفنيها إلى هذا الوقت المتأخر"
و نصحو في أسِرّة الحجرات الأخرى ولا ندري كيف ولا متى نُقِلنا إليها ...

و اليوم و البيت تحت قرار الإزالة ... أحن إليه تماماً كحنيني إليه في أيام
الدراسة حين كنت أعد الأيام حتى تأتي أجازة الصيف و نجتمع فيه.
أتمنى لو أزوره مرة أخيرة أصور فيها كل ركن من أركانه فإني أخشى أن يأتي
اليوم الذي لا أستطيع أن أتذكر فيه تفاصيله لأحكيها لأولادي و لأحفادي ...
أتمنى أن أذهب فأرفع البياضات عن كراسي الصالون لأعرف لونها , و هل كان
يستحق الحفاظ عليه بهذه الشدة ..
و أكثر حنيني هو لجدتي نفسها ...
لعينيها الباسمتين الراضيتين بقضاء الله عليها , لشعرها الأبيض الذي كنا
نعد فيه خمس شعرات شقراء ...
أحن لتقبيل يديها , و لمسحها على شعري و هي تدعو لي كل صباح بعد الإفطار
حين أخبرها أني غسلت أسناني ...
أريد أن أسألها كيف صمدت كل هذه السنين رغم المرض و رغم كل نوائب الدهر
التي مرت عليها !!
كيف بنت هذه الأسرة المترابطة التي لم ينفك عقدها إلى الآن !!!
كيف احتفظت بطيبتها و نقائها و الخير المتفجر منها رغم الحياة الصعبة التي
خبرتها !!!
ليتني أعرف منها علّي أمشي على نهجها .
ليتك موجودة معنا يا جدتي لأخبرك كم أحبك و كم أشتاقك يا ملاكي :*